فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

93 سورة الضحى:
نزولها: مكية.
نزلت بعد سورة الفجر.
عدد آياتها: إحدى عشرة آية.
عدد كلماتها: أربعون كلمة.
عدد حروفها: مائة واثنان وسبعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
أقسم سبحانه في سورة (الليل)، بـ: {الليل إذا يغشى}، وبـ: {النهار إذا تجلى}..
وبدأ بالقسم بـ: {الليل}، ثم أعقبه بالقسم بـ: {النهار}..
وهنا يقسم اللّه سبحانه بالنهار أولا {والضحى} ثم بـ: {الليل} ثانيا.. {والليل إذا سجى} وبهذا يتوازن الليل والنهار، فيقدّم أحدهما في موضع ويقدم الآخر في موضع، ولكل من التقديم والتأخير في الموضعين مناسبته.. وقد أشرنا من قبل إلى المناسبة في تقديم الليل على النهار في سورة الليل، وسترى هنا المناسبة في تقديم النهار على الليل..
الآيات: (1- 11) [سورة الضحى (93): الآيات 1- 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{والضحى (1) وَالليل إِذا سجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى (4) ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى (6) وَوَجَدَكَ ضالا فهدى (7) وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى (8) فَأَمَّا اليتيم فَلا تقهر (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تنهر (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {والضحى وَالليل إِذا سجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قلى} {الضحى}، أول النهار وشبابه، حيث تعلو الشمس على أفقها الشرقي، فتبسط ضوءها على الوجود..
{وَالليل إِذا سجى}.. سجا الليل، يسجو، سجوّا، وسجوّا، أي سكن، وهدأ، حيث تسكن فيه حركة الحياة، كما يسكن موج البحر، وينطوى صخبه وهديره، وهذا يعنى الدخول في الليل إلى حدّ استوائه، كالدخول في النهار إلى وقت الضحى، حيث يسفر وجه النهار على تمامه وكماله..
قيل إن هذه السورة نزلت بعد فترة انقطع فيها الوحى عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لقد اتخذ المشركون من ذلك مادة للسخرية من النبي، وأن ربّه- الذي يقول إنه يوحى إليه بما يحدثهم به- قد قلاه، أي هجره، كرها له وبغضا!! وفى القسم بالضحى، إشارة إلى مطلع شمس النبوة، وأن مطلعها لا يمكن أن يقف عند حد الضحى الذي بلغته في مسيرتها، بل لابد أن تبلغ مداها، وأن تتم دورتها.. فالشمس في مسيرتها، لا يمسكها شيء إذا طلعت.
وفى القسم بالليل بعد الضحى، وإلى سجوّ هذا الليل وسكونه- إشارة أخرى إلى أن فترة انقطاع الوحى، ليست إلا فترة هدوء، واستجمام يجمع فيها النبي نفسه، ويلمّ فيها خواطره، بعد هذا النور الغامر الذي بهره، وهز أعماق نفسه.. وإن بعد هذا الليل الهادئ الوادع نهارا، مشرقا وضيئا.. فهكذا يجرى نظام السكون، على ما أقامه الصانع الحكيم.
يقول الأستاذ الأمام محمد عبده: وليس في نسق السورة ما يشير إلى أن المشركين أو غير هم بغرض من الخطاب.. ومن أين كان للمشركين أن يعلموا فترة الوحى، فيقولوا أو يطعنوا، ولكن ذلك كان شوق النبي- صلى الله عليه وسلم إلى مثل ما رأى وما فهم عن اللّه، وما ذاق من حلاوة الاتصال بوحيه.. وكل شوق يصحبه قلق، وكل قلق يشوبه خوف..
وهذا ما نقول به، ونرضى عنه.. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل، لم لا يداوم الاتصال به ويكثر من الوحى إليه، فنزل قوله تعالى: {وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ..} (64: مريم) وقوله تعالى: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قلى} هو المقسم عليه، وهو أن اللّه سبحانه لم يودع النبي، وداعا لا لقاء بعده، بل إن اللّه معه، في كل لحظة من لحظات حياته، ومع كل نفس من أنفاس صدره.
وأن انقطاع الوحى في تلك الفترة لم يكن عن قلى وهجر من اللّه سبحانه وتعالى له، فهو الحبيب إلى ربه، المجتبى إليه من خلقه..
وفى توكيد الخبر بالقسم، مزيد من فضل اللّه ورحمته، للنبى الكريم، ورفع لمنزلة النبي عند ربّه، حتى لينزل منزلة الحبيب من حبيبه.
وقوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى} الآخرة، خاتمة أمر النبي مع النبوة، والأولى، مبدأ أمره معها..
أي أن آخرة أمر النبي مع رسالته، خير من أولها.. فإذا بدأت رسالته بهذا العناء المتصل، الذي واجهه من عناد قومه، ومن تأتيهم عليه، وتكذيبهم له، وملا حقته هو والمؤمنون معه بالأذى، والضر، وبالحرب والقتال- فإن خاتمة هذه الرسالة ستكون نصرا مؤزّرا له، وفتحا عظيما الدعوة، وخزيا وإذ لا لا للضالين المعاندين..
قوله تعالى: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} أي ولسوف يلقاك ربك بالعطايا والمنن، حتى تقر عينك، وينشرح صدرك، وذلك بما ينزل عليك من آيات ربك، وبما يحقق لدعوتك من نصر وتمكين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{والضحى (1)}
القسم لتأكيد الخبر ردّاً على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه لم يقم الليل بالقرآن بضع ليال.
فالتأكيد منصبٌ على التعريض المعرض به لإِبطال دعوى المشركين.
فالتأكيد تعريض بالمشركين وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه.
ومناسبة القسم بـ: {الضحى والليل} أن الضحى وقتُ انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وهو الوقت الذي كان يَسمع فيه المشركون قراءته من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام.
ولذلك قُيد {الليل} بظَرف {إذا سجى}.
فلعل ذلك وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً} [المزمل: 2، 3].
والضحى تقدم بيانه عند قوله تعالى: {والشمس وضحاها} [الشمس: 1].
وكتب في المصحف {والضحى} بألف في صورة الياء مع أن أصل ألفه الواو لأنهم راعوا المناسبة مع أكثر الكلمات المختومة بألف في هذه السورة فإن أكثرها مُنقلبَة الألِف عن الياء، ولأن الألف تجري فيها الإمالة في اللغات التي تُميل الألفَ التي من شأنها أن لا تُمال إذا وقعت مع ألف تمال للمناسبة كما قال ابن مالك في (شرح كافيته).
ويقال: سجا الليل سَجْواً بفتح فسكون، وسُجُوا بضمتين وتشديد الواو، إذا امتد وطال مدة ظلامه مثل سجو المرء بالغطاء، إذا غطي به جميع جسده وهو واوي ورسم في المصحف بألف في صورة الياء للوجه المتقدم في كتابة {الضحى}.
وجملة: {ما ودعك ربك} إلخ جواب القسم، وجواب القسم إذا كان جملة منفية لم تقترن باللام.
والتوديع: تحيةُ من يريد السفر.
واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيهاً بفراق المسافر في انقطاع الصلة حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإقامة، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالاً معهوداً.
وهذا نفي لأن يكون الله قطع عنه الوحي.
وقد عطف عليه: {وما قلى} للإِتيان على إبطال مقالتي المشركين إذ قال بعضهم: ودَّعه ربه، وقال بعضهم: قَلاه ربه، يريدون التهكم.
وجملة: {وما قلى} عطف على جملة جواب القسم ولها حكمها.
والقليْ (بفتح القاف مع سكون اللام) والقلى (بكسر القاف مع فتح اللام): البغض الشديد، وسبب مقالة المشركين تقدم في صدر السورة.
والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر، فعن ابن عباس وابن جريج: احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً أو نحوها. فقال المشركون: إن محمداً ودَّعه ربه وقلاه، فنزلت الآية.
واحتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين:
أولاهما: قبل نزول سورة المدثر أو المزمل، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر، وتلك الفترة هي التي خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد انقطع عنه الوحي، وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض كما تقدم في تفسير سورة المدثر، وقد قيل: إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوماً ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدإ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه وقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليلاً.
وثانيتهما: فترة بعد نزول نحو من ثماننِ سور، أي السور التي نزلت بعد الفترة الأولى فتكون بعد تجمع عشر سور، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور.
والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوماً وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم كي تسْتَجِمَّ نفسه وتعتاد قوته تحمُّل أعباء الوحي إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوماً ثم كانت الثانية اثني عشر يوماً أو نحوها، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثاً، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر.
وحُذف مفعول {قلى} لدلالة {ودعك} عليه كقوله تعالى: {والذاكرين اللَّه كثيراً والذاكرات} [الأحزاب: 35] وهو إيجاز لفظيّ لظهور المحذوف ومثله قوله: {فآوى} [الضحى: 6]، ف {هدى} [الضحى: 7] {فأغنى} [الضحى: 8].
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى (4)}
عطف على جملة: {والضحى} [الضحى: 1] فهو كلام مبتدأ به، والجملة معطوفة على الجمل الابتدائية وليست معطوفة على جملة جواب القسم بل هي ابتدائية فلما نُفي القلى بشّر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد أعطاه في الدنيا وفي الآخرة.
وما في تعريف (الآخرة) و{الأولى} من التعميم يجعل معنى هذه الجملة في معنى التذييل الشامل لاستمرار الوحي وغير ذلك من الخير.
والآخرة: مؤنث الآخرِ، و{الأولى}: مؤنث الأوَّل، وغلب لفظ الآخرة في اصطلاح القرآن على الحياة الآخرة وعلى الدار الآخرة كما غلب لفظ الأولى على حياة الناس التي قبل انخرام هذا العالم، فيجوز أن يكون المراد هنا من كلا اللفظين كِلا معنييه فيفيد أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة تبشيراً له بالخيرات الأبدية، ويفيد أن حالاته تجري على الانتقال من حالة إلى أحسن منها، فيكون تأنيث الوصفين جاريا علي حالتي التغليب وحالتي التوصيف، ويكون التأنيث في هذا المعنى الثاني لمراعاة معنى الحالة.
ويومئ ذلك إلى أن عودة نزول الوحي عليه هذه المرة خير من العودة التي سبقت، أي تكفل الله بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد.
فاللام في (الآخرة) و{الأولى} لام الجنس، أي كُلّ آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى.
واللام في قوله: {لك} لام الاختصاص، أي خير مختص بك وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي دِينه وفي أمته، فهذا وعد من الله بأن ينشر دين الإِسلام وأن يمكِّن أمته من الخيرات التي يأملها النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
وقد روى الطبراني والبيهقي في (دلائل النبوءة) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُرض على ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني فأنزل الله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى}
{ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى (5)}»
.
هو كذلك عطف على جملة القسم كلها وحرف الاستقبال لإفادة أن هذا العطاء الموعود به مستمر لا ينقطع كما تقدم في قوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربي} في سورة يوسف (98) وقوله: {ولسوف يرضى} في سورة الليل (21).
وحذف المفعول الثاني {ليعطيك} ليعمّ كل ما يرجوه صلى الله عليه وسلم من خير لنفسه ولأمته فكان مفاد هذه الجملة تعميم العطاء كما أفادت الجملة قبلها تعميم الأزمنة.
وجيء بفاء التعقيب في {فترضى} لإفادة كون العطاءِ عاجلَ النفع بحيث يحصل به رضى المعطَى عند العطاء فَلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تَربص.
وتعريف {ربك} بالإضافة دون اسم الله العَلَم لما يؤذن به لفظ (رب) من الرأفة واللطف، وللتوسل إلى إضافته إلى ضمير المخاطب لما في ذلك من الإِشعار بعنايته برسوله وتشريفه بإضافة رَب إلى ضميره.
وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم من النصر والظَفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجاً وما فُتح على الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم من أقطار الأرض شرقاً وغرباً.
واعلم أن اللام في {وللآخرة خير} [الضحى: 4] وفي {ولسوف يعطيك} جزَم صاحب (الكشاف) بأنه لام الابتداء وقدر مبتدأ محذوفاً.
والتقدير: ولأنت سوف يعطيك ربك.
وقال: إن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد وحيث تعين أن اللام لام الابتداء ولام الابتداء لا تدخل إلا على جملة من مبتدأ وخبر تعين تقدير المبتدأ.
واختار ابن الحاجب أن اللام في {ولسوف يعطيك ربك} لام التوكيد (يعني لام جواب القسم).
ووافقه ابن هشام في (مغني اللبيب) وأشعر كلامه أن وجود حرف التنفيس مانع من لحاق نون التَوكيد ولذلك تجب اللام في الجملة.
وأقول في كون وجود حرف التنفيس يوجب كون اللاّم لام جواب قسم محلّ نظر. اهـ.